نظرية التعلق: هي غلطة والدي بالكامل إذا؟
نظرية التعلق في العلاج النفسي الدينامي
نظريات الديناميكا النفسية (Psychodynamic) تطرح أهمية الطفولة والعلاقات التي كانت لدينا مع مقدمي الرعاية خاصتنا، مؤمنة أن هذه العلاقات شكلت شخصياتنا ومشاكلنا (هذا في مقابل نظريات المنهج المعرفي السلوكي، التي تركز على الحاضر).
هذا لا يعني أن كل المشاكل التي تواجهنا كرشداء هي بسبب والدينا، لكن القصد أن علاقاتنا الأولى هي واحدة من العناصر الأساسية التي ساهمت في تكوين الأشخاص الذين نحن عليهم اليوم.
واحدة من بين أهم جوانب العلاج النفسي الدينامي بالتحديد هي استكشاف هذه الروابط الأولى وأهميتها في سعادتنا وعلاقاتنا كرشداء.
لكن ما هو التعلق بالضبط، وكيف أصبح يكوّن جزءا مهما من العلاج النفسي الدينامي؟
نظرية التعلق لجون بولبي John Bowlby
“التعلق يمكن أن يوصف على أنه الروابط العاطفية التي تربط شخصا بآخر عبر المكان والزمان، على سبيل المثال الترابط بين الأم والطفل.”
أهميته بدأت في عالم العلاج النفسي مع طبيب نفسي بريطاني يدعى جون بولبي، والذي بعد أن عمل مع الأطفال المضطربين عاطفيا انصب على أهمية العلاقة بين الأم والطفل. بولبي لاحظ الرابط بين الانفصال المبكر للأطفال عن أمهاتهم وبين عدم تأقلمهم لاحقا. هذه الملاحظات كونت المبادئ الأساسية لنظرية التعلق.
العديد من الأشخاص في ذلك الحين كان يعتقد أن التعلق بين الأم والطفل كان بالأساس راجعا لحقيقة أن الأم توفر الطعام للرضيع.
“لكن بولبي بين أن التعلق بمقدم الرعاية يوفر الأمان، الحماية والسلامة والتي تعتبر أشياء ضرورية لفرص الطفل في البقاء.
بولبي رأى أن الأطفال يكونون روابط مع كل من يقدم الرعاية باستمرار ويكون حساسا اتجاههم ومستجيبا لهم والسلوك الأكثر دلالة على هذا التعلق هو البحث عن القرب من مقدم الرعاية.
بولبي رأى أيضا أن الأطفال الرضع يحتاجون لتطوير علاقة مع مقدم رعاية واحد على الأقل حتى يتمكنوا من التطور اجتماعيا وعاطفيا.
عرفت أعمال بولبي توسعا كبيرا فيما بعد من قبل عالمة النفس التطوري الأمريكية ماري اينسوورث Mary Ainsworth في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والتي أضافت بعدا آخر لبحث الطفل عن القرب من مقدم الرعاية.
استمرت دراسات حديثة في استكشاف نظرية التعلق. في حين كانت بعض جوانبها محل نقاش حاد، تم الاحتفاظ بجوانب أخرى في منهج الديناميكا النفسية “والعلاج النفسي الارتباطي” (Relational Psychotherapy).
المبادئ الأساسية لنظرية التعلق
1- لدى الطفل احتياج فطري لتكوين روابط (عاطفية)
بولبي قال بأن الدليل على هذا هو من خلال بحث الطفل عن القرب -المكاني- من مقدم الرعاية الرئيسي واستعمال إشارات كالبكاء، الضحك والحركات للحصول على استجابة من مقدم الرعاية.
2- الاهتمام المستمر يجب أن يقدم من طرف مقدم الرعاية الأساسي طيلة السنتين الأوليين من حياة الطفل
بولبي يؤكد أن السنتين الأوليين تعتبر مرحلة حرجة يكون خلالها التعلق في أضعف حالاته: إذا تم كسر الرابط قد ينتهي الأمر بمعاناة الطفل من “حرمان الأم” والذي يشير إلى الانفصال الناتج عن فقدان الأم. نتائج هذا الأمر، يفترض بولبي، قد يكون لها وقع كبير على الأداء الوظيفي للطفل اجتماعيا، عاطفيا وإدراكيا.
3- مقدم الرعاية الرئيسي يعتبر كنموذج مبدئي للعلاقات المستقبلية من خلال ما يسمى “نموذج العمل الداخلي” ( عملية تفكير مبنية على التجارب الماضية تساعد الشخص في فهم الاستجابات والأفعال.)
مفهوم “نموذج العمل الداخلي” يعتبر من أشهر المفاهيم التي جاء بها بولبي. جوهريا، يقول بولبي أن علاقة الطفل الرضيع بمقدم الرعاية الرئيسي تقود لتطوير “نموذج عمل داخلي”. هذا النموذج يعطي إطارا لفهم العالم، الذات والآخرين، وبالتالي يقود تفاعلات الطفل مع الأشخاص الذين يحتك بهم. ببساطة، مقدم الرعاية يتصرف كنموذج للعلاقات المستقبلية من خلال “نموذج العمل الداخلي”.
4- أهمية نوعية التعلق
في سنة 1978 قامت Mary Ainsworth وزملاؤها بتصميم دراسة لاختبار جودة التعلق بين الأم والطفل، وأطلقت على هذه الطريقة اسم “الموقف الغريب”. تقوم هذه الدراسة على أساس رؤية كيف سيكون رد فعل الطفل عند مغادرة أمه للغرفة. من خلال هذه الدراسة خلصت Mary Ainsworth إلى تصنيف أربعة نماذج بين الأطفال:
التعلق الآمن: سيلعب الطفل بسرور ويكتشف محيطه خلال وجود الأم في الغرفة لكنه سيستاء بسرعة عند حدوث الانفصال. إلا أنه بعد عودة الأم للغرفة سيسعى الطفل للتواصل معها ويعود للعب.
التعلق التجنبي: الطفل لا يبدي استياء عند مغادرة الأم الغرفة ولا يبدو مهتما عند عودة الأم.
التعلق القلق/المضطرب: الطفل لا يقوم بالاكتشاف عندما تكون الأم حاضرة وسيصبح غاضبا ومتوترا عند عودة الأم للغرفة. الطفل لن يستأنف اللعب بعد عودة الأم.
التعلق غير المنتظم/المشوش: الطفل قد يبدي سلوكات متناقضة مثل عدم النظر إلى الأم أثناء البكاء أو عدم إظهار أية مشاعر للأم.
اينسوورث لاحظت أيضا أن الرضع، الذين تم الاهتمام بهم بعطف وباستمرار خلال الشهور الأولى، يبكون أقل بكثير في نهاية عامهم الأول ويكونون أكثر قدرة على اللعب واكتشاف محيطهم.
بالإضافة إلى ذلك، يقول بولبي أنه عندما يستمر مقدم الرعاية في كونه غير متاح للطفل، غضب واستياء الطفل قد ينجم عنه انفصال (عاطفي) وقد يستمر في حرمان الطفل فيما بعد من تطوير علاقات عاطفية صحية ومتينة.
باستخدام نماذج التعلق هذه، تم القيام بدراسات أخرى عديدة بينت أن الأطفال ذوو نمط التعلق غير المنتظم يميلون لإظهار أساليب غيرسوية في العلاقات تتميز بالعنف والانغلاق. أكثر من ذلك، يبدو الأطفال ذوو النمط المضطرب في خطر تطوير مشاكل داخلية كالاكتئاب والقلق في سن الرشد.
ختاما، تجدر الإشارة إلى أنه رغم أن بولبي يشير مبدئيا للأم كمقدم الرعاية الرئيسي، فإنه قد تم تجاوز هذا وأغلب المعالجين يظنون أن مقدم الرعاية الرئيسي ليس من الضروري أن يكون الأم ليكون الطفل قادرا على بناء نمط تعلق آمن.
أهمية التعلق في سن الرشد والعلاج النفسي
في حين أن أغلب الدراسات عن التعلق تركز على الرضع والأطفال، سنوات الثمانينات عرفت توسيع هذه الأعمال لتصل للكبار بالخصوص في العلاج النفسي الدينامي. تحديدا، تم افتراض أن نماذج العمل الداخلية التي نضعها ونحن أطفال تظل ثابتة خلال مراحل الرشد.
على سبيل المثال، شخص راشد ذو نمط آمن سيتحدث بشكل متناسق عن ماضيه وعن العلاقات التي كان طرفا فيها. بدلا من ذلك، شخص بالغ قلق قد يتحدث عن تجاربه الماضية بطريقة عاطفية ومحيرة. وبالتالي، تركيز العلاج النفسي سينكب على التعرف على هذه النماذج وخلق محيط آمن يتم فيه إعادة بناء قاعدة أكثر أمانا.
تحديدا، المعالج النفسي قد يستعمل “الانتقال” و “الانتقال المقابل” ليفهم أولا العلاقات بين الزبون وبين مقدمي الرعاية الرئيسيين لهذا الأخير، وثانيا ليرى استجابة الآخرين لنموذج العمل الداخلي التجنبي، المقاوم أو غير المنتظم. ومن هذا، يمكن للمعالج استخدام قوة العلاقة العلاجية (منح قاعدة آمنة للزبون) وتوفير المحيط الآمن ليتصرف بشكل مختلف عن صورة/تمثلات التعلق السابقة ويبدأ في علاج الروابط المكسورة.
الصلة العلاجية (علاقة المعالج بالزبون) تمنح فضاء آمنا يستطيع الزبون التعبير فيه عن مشاعر الغضب، الحزن أو الاستياء وأن يعمل أيضا على إعادة صياغة رواياته القديمة.
المصدر: Harley Therapy
الصورة: by Jenna Christina on Unsplash